الكآبة المرضية أوصافها ملأت ملحمة كلكامش


الكآبة المرضية أوصافها ملأت ملحمة كلكامش    الكآبة المرضية : أوصافها ملأت ملحمة « كلكامش »  الأرجح أنه يصعب على قُرَّاء ملحمة كلكامش ،وهي من أقدم النصوص الملحمية - الدينية ، نسيان ذلك الحزن الهائل الذي تملَّك بطلها العظيم ( كلكامش ) ، بعدما شاهد بأم عينه مصرع صديقه الحميم « أنكيدو » ومفارقة الحياة لجسده ، وتملئى الملحمة بذكر التغييرات التي حلَّت بالبطل الخارق « كلكامش » ، الذي كان يوقظ رعيته على صوت الطبل يومياً ، فصار شريداً ، يرتحل من مكان إلى آخر بحثاً عن تفسير لمعنى الموت ، ولا يفيده رحيله إلا غرقاً في أحزانه. ملحمة كلكامش ‏نُقشت تلك الأسطورة على ألواح مسمارية عثر عليها في مدينة « أور » في العراق ، وتبين أن كلكامش بطل خارق ، جاء نتيجة زواج أحد آلهة الأساطير الأشورية مع امراة ، تماماً كما يوصف هرقل في أساطير اليونان . تروي الملحمة أن كلكامش اتخذ من أنكيدو ، ابن الصحراء والمحارب الشهم ، صديقاً له وخلاً ، ويخوض البطلان غمار حروب ومعارك تنتهي بانتصارهما ، لكنها أيضاً تستجلب غضب الآلهة منهما ، ويأتي القصاص عبر موت الخل الوفي أنكيدو . وينخلع قلب كلكامش من هذه الفاجعة . ويمتلئ كرباً . ويعاني حزناً لم يعرف مثله . ويأخذ الكرب بجماع مزاجه وعواطفه ، بل يخلخل افكاره التي تتجه بإلحاح نحو الموت والعدم والعبث واللاجدوى . ويهمل كلكامش العناية بنفسه وهندامه ، ويهجر التضمخ بالعطر والتدخن بالزيت ، وكانا من عاداته اليومية , ويختل نومه . وتضطرب علاقاته مع محيطه ومجتمعه . وتستمر معاناة كلكامش أسابيع متصلة ، تفوق ما هو مألوف في الحداد على وفاة صديق حميم . تكاد هذه المعطيات أن تكون ثبتاً طبياً عن الكابة المرضية ( أو السريرية ) Clinical Depression ، بمعني الكابة التي تصل إلى مستوى المرض النفسي ، وليس مجرد الاكتئاب النفسي العابر أو حال الحزن التي ترافق فقدان الأحبة وخسارة المال والفشل وغيرها . وبالعودة إلى الملحمة البابلية ، هل كان كلكامش اول مريض كابة معروف في التاريخ المكتوب للبشرية ؟ وبحسب نصوص الملحمة ، لا يكتفي كلكامش بالسؤال ، بل يحتج على عدم عدالة « تراتبية قدرية من نوع ما . إنه محكوم بالفناء ، أما أباؤه الكبار ذوو السطوة والحول ، فإن لهم الخلود . وتستمر الملحمة في وصف تحول  الاحتجاج ، عبر الكآبة ، قبولاً لهذه التراتبية الأسطورية .هل أصابت ملحمة كلكامش هدفا غير مباشر في قولها بأن الكابة هي رد  فعل الكائن على تراتبية اجتماعية تضعه في مقام أدنى ، وأنها ربما كانت  شرطاً إنسانياً لاستمرار هذه التراتبية ، بالأحرى أن الكابة تشكل « ثمناً » نفسياً لاستمرار عيش الإنسان في تجمع بشري متراتب ؟ وكأن مأساة  كلكامش أن كأبته هي حكم اجتماعي يقول : « قف عند هذه الحدود ولا تتخطاها ، فأنت أقل شأناً ..  وباستعراض سريع لنصوص مثل ملحمة رامايانا ، الهندية وأساطير اليونان وبعض قصص العهد القديم ، نجد قصصاً فيها أوصاف تشبه ما يصنفه علم النفس وطبها باعتباره كأبة مرضية . لماذا رافقت هذه الاضطرابات النفسية مجتمعات البشر ؟ هل هي جزء من الاجتماع الإنساني ، بل ضريبته المؤلة ؟ هل هي خط انتقائي من جينات معينة  يتناقلها البشر دوماً ، ويظهر فعلها عند حدوث ضغوط على الإنسان ، على غرار إجباره على ترك طموحه ، ومنعه مما يتخيل أنه من حقوقه ؟ لعل أول محاولة علمية لتلمس المناحي التطورية في الكابة هي بحث الاختصاصي البريطاني مودسلي في العام 1872 عن سبب العنف في   التعبير عن المشاعر لدى مرضى مصابين بأمراض نفسية شديدة .وتوصل مودسلي ، الذي يحمل اسمه أشهر مستشفى نفسي في بريطانيا ، إلى خلاصة مفادها أن الاضطراب النفسي هو ضريبة حتمية للتطور .ووفرت حقبة الستينيات من القرن العشرين فرصة أمام اختبار الكأبة على محك التطور التقني- الاجتماعي أيضا . إذ أشار معظم الدراسات  النفسية إلى تأثير الانتشار الواسع لجهاز التلفزيون ، في ظاهرة عنف المدن ومراهقيها .  واستنادا إلى تلك البحوث وغيرها ، صاغ الطبيب النفساني أس ، برايس خلاصة باتت شائعة في سيكولوجيا التطور ، عن النظر إلى الكابة باعتبارها رد فعل بيولوجي- اجتماعي يشكل جزءاً مما هو موروث في  الكائن الإنساني . ابحث عن الشعوب حاول العلماء دوماً التفكير في كيفية نشوء المشاعر والعواطف والأحاسيس والرغبات والسلوك وردود الأفعال وكل ما يكون عقل  الإنسان ونفسيته . ويطلق تعبير السيكولوجيا التطورية Evolutionary  Psychology على العلم الذي يحاول تقفي أثر التطور والارتقاء ، بما في ذلك الارتقاء الطبيعي ، في تكوين دماغ البشر . وبقول آخر ، تسعى التطورية لوضع تصور عن دور البيئة الاجتماعية ومتغيراتها في التشكل النفسي  للإنسان ، وتبلورت سيكولوجيا التطور منذ النصف الثاني من القرن العشرين ، وارتكزت إلى معطيات عدة ، إذ لوحظ مثلاً ، أن معدلات الكابة  تتضاعف مرة كل عشر سنوات في البلدان المتقدمة . ويشكل الانتحار ثالث سبب للوفيات في أميركا الشمالية ، بعد حوادث السيارات والقتل ، وهي أشياء لها ترابطات عميقة مع الأحوال النفسية للبشر . ومن الشائع القول إن معدلات الكآبة في الغرب تزايدت طرداً مع الصعود المستمر للفردية INDIVIDUALITY ومشروعها وثقافتها في تلك المجتمعات ، خصوصاً خلال القرون الثلاثة الماضية . وكذلك يميل جمع من الاختصاصيين المعاصرين ، مثل البريطاني جوليان ليف ، إلى الاعتقاد بوجود فوارق في نسب الإصابة بالأمراض النفسية بين الشعوب المختلفة وثمة انطباع متصل عن وجود ارتباط بين التقدم في الحضارة وأساليبها ومجتمعاتها ، وبين الكآبة والقلق وما إليهما .   وفي هذا السياق ، سجل عالم الاجتماع الفرنسي نابليون شانيون ، وقائع نساء عن لقائه الأول مع اليانومامو ، وهي جماعة بدائية تعيش في غابات فنزويلا . وقال : « صعقت لرؤية عشرات من الرجال العراة الضخام الجثث ، على قذارة وبشاعة ... كانوا يحدقون بنا من أطراف أسنة رماحهم المشرعة . لقد وصلنا مباشرة عقب قتال سببه اختطاف من القرية . وتمكن هؤلاء الرجال من استعادة خمسة منهن بعد قتال ضار بالهراوات . وعلى الرغم من العنف البربري الذي تظهره ملاحظة شانيون هذه ، إلا أن جملة من دارسي الأنثروبولوجيا ، لاحظوا أن عنف المجتمعات البدائية أكثر حذقا وذكاء من القتال بالعصي . ويبدو أن أسلافنا تنافسوا على النساء بالدهاء والعمل الدءوب ، كما تنافسوا على المكانة الاجتماعية بالمُلاسنة والعلاقات الإنسانية . ونجد ما يوازي ذلك في تنافس رجال العرب قديما على قلوب النساء بالشعر والخطابة وسباقات الخيل وما إليها . ولربما أحبط التقدم التكنولوجي الكثير من مشاعر الرقة في الانسان ، وساهم في جعله أكثر ذئبية !   الكآبة « بديلا » للقتل  أظهرت دراسات اجتماعية حديثة أن الرجال الأكثر حظاً في تعزيز مكانتهم في المجتمعات البدائية ، كانوا أوفر حظاً في التزاوج ، وتالياً في نقل تركيبتهم الوراثية ( عبر الجينات ) إلى الأجيال اللاحقة ، ولذا يمكن استنتاج أن الأنماط العقلية المتصلة بهذا الضرب من التوارث الجيني الانتقائي ، كانت أكثر توارثا واستمراراً . ولا يخلو هذا الاستنتاج من قسر وابتسار مصدرهما جعل الجينات عنصراً محدداً وحاسماً في الأنماط العقلية والسلوكية ، وهو قول يصعب أخذه من دون نقد علمي مناسب ، والأرجح أن ثمة تداخلاً مذهلاً ومستمرا بين أنماط الثقافة والعيش من جهة وبين الجينات من الجهة الثانية ولعل هذا التداخل بحاجة إلى دراسات موسعة من قبل سيكولوجيا التطور .   إذا قبلنا مسألة توارث الأنماط العقلية عبر الجينات ، مع اعتراض ملائم ، نصل للقول بأن أدمغتنا وتفكيرنا يستعمل جينات جرى انتقاؤها خلال مراحل تاريخية أكثر بدائية في التركيب الاجتماعي والتكنولوجي . ولأن تلك المجتمعات عاشت صيغا من التآزر والتعاون الاجتماعي كضرورة للبقاء ومواجهة المجاعة والوحوش وتقلب المناخ ، فإن أدمغتنا مزودة ببنية تحتية قوية للصداقة والمحبة والثقة . ولا تنفي هذه الغيرية المتبادلة ، وجود حيز للتنافس المز ومشاعر الغضب والإحباط والعدوان . وفي تاريخ العرب أن الغيداء الفاتنة دعد وعدت أن تعطي نفسها للرجل الأجود شعراً ولما أدرك أحدهم أن قصيدته أقل مستوى من صاحبه ، انقض عليه وقتله لينال المرأة التي يهواها . إذن هل رافقت الكابة الإنسان كضرورة لعدم تشجيع أنماط السلوك المفضية إلى معاناة الإحباط ومرارة الاندحار والهزيمة ؟ بالرجوع إلى الملحمة البابلية نجد أنها تسير نحو ختام مثير . إذ يمز كلكامش بسلسلة تجارب تعطيه معارف عميقة وترسم خطا جديداً في طريقة تفكيره . وبعد مكابدة أهوال شتى ، يحصل على « عشبة الخلود » ، لكن الحية تأكلها ! ويعود كلكامش إلى « أور » ، أقل كأبة ، لكن ليس سعيداً تماماً . إذ تقبل كلكامش أن يكون الموت مصيره المحتم ، على الضد من طموحه بالخلود . وفي المقابل ، يدرك كلكامش ان ما يبقى هو ما يقدر الإنسان على فعله بالتعاون والتضامن مع غيره من البشر . هل الكأبة هي ثمن انضمام الأكثر طموحاً إلى مسار الحشد الاجتماعي ؟ لو افترضنا أن أنسال كلكامش حملت كابته ، لكفت عن تطلب المستحيل ، ولسعت إلى التعاون مع الآخر والمجموع ، لبناء مجتمع أكثر تقدماً . هل هذا ما حصل فعلا ؟ في هذه الحال ، تكون ملحمة كلكامش مجرد تورية وتشبيه عن دور الحزن والشاعر المرهفة في تطور الانسان والمجتمع! الكآبة المرضية.. أوصافها ملأت ملحمة كلكامش   الكآبة المرضية : أوصافها ملأت ملحمة « كلكامش »  الأرجح أنه يصعب على قُرَّاء ملحمة كلكامش ،وهي من أقدم النصوص الملحمية - الدينية ، نسيان ذلك الحزن الهائل الذي تملَّك بطلها العظيم ( كلكامش ) ، بعدما شاهد بأم عينه مصرع صديقه الحميم « أنكيدو » ومفارقة الحياة لجسده ، وتملئى الملحمة بذكر التغييرات التي حلَّت بالبطل الخارق « كلكامش » ، الذي كان يوقظ رعيته على صوت الطبل يومياً ، فصار شريداً ، يرتحل من مكان إلى آخر بحثاً عن تفسير لمعنى الموت ، ولا يفيده رحيله إلا غرقاً في أحزانه. ملحمة كلكامش ‏نُقشت تلك الأسطورة على ألواح مسمارية عثر عليها في مدينة « أور » في العراق ، وتبين أن كلكامش بطل خارق ، جاء نتيجة زواج أحد آلهة الأساطير الأشورية مع امراة ، تماماً كما يوصف هرقل في أساطير اليونان . تروي الملحمة أن كلكامش اتخذ من أنكيدو ، ابن الصحراء والمحارب الشهم ، صديقاً له وخلاً ، ويخوض البطلان غمار حروب ومعارك تنتهي بانتصارهما ، لكنها أيضاً تستجلب غضب الآلهة منهما ، ويأتي القصاص عبر موت الخل الوفي أنكيدو . وينخلع قلب كلكامش من هذه الفاجعة . ويمتلئ كرباً . ويعاني حزناً لم يعرف مثله . ويأخذ الكرب بجماع مزاجه وعواطفه ، بل يخلخل افكاره التي تتجه بإلحاح نحو الموت والعدم والعبث واللاجدوى . ويهمل كلكامش العناية بنفسه وهندامه ، ويهجر التضمخ بالعطر والتدهن بالزيت ، وكانا من عاداته اليومية , ويختل نومه . وتضطرب علاقاته مع محيطه ومجتمعه.   وتستمر معاناة كلكامش أسابيع متصلة ، تفوق ما هو مألوف في الحداد على وفاة صديق حميم . تكاد هذه المعطيات أن تكون ثبتاً طبياً عن الكابة المرضية ( أو السريرية ) Clinical Depression ، بمعني الكابة التي تصل إلى مستوى المرض النفسي ، وليس مجرد الاكتئاب النفسي العابر أو حال الحزن التي ترافق فقدان الأحبة وخسارة المال والفشل وغيرها . وبالعودة إلى الملحمة البابلية ، هل كان كلكامش اول مريض كابة معروف في التاريخ المكتوب للبشرية ؟ وبحسب نصوص الملحمة ، لا يكتفي كلكامش بالسؤال ، بل يحتج على عدم عدالة « تراتبية قدرية من نوع ما . إنه محكوم بالفناء ، أما آباؤه الكبار ذوو السطوة والحول ، فإن لهم الخلود . وتستمر الملحمة في وصف تحول  الاحتجاج ، عبر الكآبة ، قبولاً لهذه التراتبية الأسطورية .هل أصابت ملحمة كلكامش هدفا غير مباشر في قولها بأن الكآبة هي رد  فعل الكائن على تراتبية اجتماعية تضعه في مقام أدنى ، وأنها ربما كانت  شرطاً إنسانياً لاستمرار هذه التراتبية ، بالأحرى أن الكابة تشكل « ثمناً » نفسياً لاستمرار عيش الإنسان في تجمع بشري متراتب ؟ وكأن مأساة  كلكامش أن كأبته هي حكم اجتماعي يقول : « قف عند هذه الحدود ولا تتخطاها ، فأنت أقل شأناً ..  وباستعراض سريع لنصوص مثل ملحمة رامايانا ، الهندية وأساطير اليونان وبعض قصص العهد القديم ، نجد قصصاً فيها أوصاف تشبه ما يصنفه علم النفس وطبها باعتباره كأبة مرضية . لماذا رافقت هذه الاضطرابات النفسية مجتمعات البشر ؟ هل هي جزء من الاجتماع الإنساني ، بل ضريبته المؤلة ؟ هل هي خط انتقائي من جينات معينة  يتناقلها البشر دوماً ، ويظهر فعلها عند حدوث ضغوط على الإنسان ، على غرار إجباره على ترك طموحه ، ومنعه مما يتخيل أنه من حقوقه ؟ لعل أول محاولة علمية لتلمس المناحي التطورية في الكابة هي بحث الاختصاصي البريطاني مودسلي في العام 1872 عن سبب العنف في التعبير عن المشاعر لدى مرضى مصابين بأمراض نفسية شديدة .وتوصل مودسلي ، الذي يحمل اسمه أشهر مستشفى نفسي في بريطانيا ، إلى خلاصة مفادها أن الاضطراب النفسي هو ضريبة حتمية للتطور .ووفرت حقبة الستينيات من القرن العشرين فرصة أمام اختبار الكأبة على محك التطور التقني- الاجتماعي أيضا . إذ أشار معظم الدراسات  النفسية إلى تأثير الانتشار الواسع لجهاز التلفزيون ، في ظاهرة عنف المدن ومراهقيها .  واستناداً إلى تلك البحوث وغيرها ، صاغ الطبيب النفساني أس ، برايس خلاصة باتت شائعة في سيكولوجيا التطور ، عن النظر إلى الكابة باعتبارها رد فعل بيولوجي- اجتماعي يشكل جزءاً مما هو موروث في  الكائن الإنساني . ابحث عن الشعوب حاول العلماء دوماً التفكير في كيفية نشوء المشاعر والعواطف والأحاسيس والرغبات والسلوك وردود الأفعال وكل ما يكون عقل  الإنسان ونفسيته . ويطلق تعبير السيكولوجيا التطورية Evolutionary  Psychology على العلم الذي يحاول تقفي أثر التطور والارتقاء ، بما في ذلك الارتقاء الطبيعي ، في تكوين دماغ البشر . وبقول آخر ، تسعى التطورية لوضع تصور عن دور البيئة الاجتماعية ومتغيراتها في التشكل النفسي  للإنسان ، وتبلورت سيكولوجيا التطور منذ النصف الثاني من القرن العشرين ، وارتكزت إلى معطيات عدة ، إذ لوحظ مثلاً ، أن معدلات الكآبة  تتضاعف مرة كل عشر سنوات في البلدان المتقدمة . ويشكل الانتحار ثالث سبب للوفيات في أميركا الشمالية ، بعد حوادث السيارات والقتل ، وهي أشياء لها ترابطات عميقة مع الأحوال النفسية للبشر . ومن الشائع القول إن معدلات الكآبة في الغرب تزايدت طرداً مع الصعود المستمر للفردية INDIVIDUALITY ومشروعها وثقافتها في تلك المجتمعات ، خصوصاً خلال القرون الثلاثة الماضية . وكذلك يميل جمع من الاختصاصيين المعاصرين ، مثل البريطاني جوليان ليف ، إلى الاعتقاد بوجود فوارق في نسب الإصابة بالأمراض النفسية بين الشعوب المختلفة وثمة انطباع متصل عن وجود ارتباط بين التقدم في الحضارة وأساليبها ومجتمعاتها ، وبين الكآبة والقلق وما إليهما .   وفي هذا السياق ، سجل عالم الاجتماع الفرنسي نابليون شانيون ، وقائع نساء عن لقائه الأول مع اليانومامو ، وهي جماعة بدائية تعيش في غابات فنزويلا . وقال : « صعقت لرؤية عشرات من الرجال العراة الضخام الجثث ، على قذارة وبشاعة ... كانوا يحدقون بنا من أطراف أسنة رماحهم المشرعة . لقد وصلنا مباشرة عقب قتال سببه اختطاف من القرية . وتمكن هؤلاء الرجال من استعادة خمسة منهن بعد قتال ضار بالهراوات . وعلى الرغم من العنف البربري الذي تظهره ملاحظة شانيون هذه ، إلا أن جملة من دارسي الأنثروبولوجيا ، لاحظوا أن عنف المجتمعات البدائية أكثر حذقا وذكاء من القتال بالعصي . ويبدو أن أسلافنا تنافسوا على النساء بالدهاء والعمل الدءوب ، كما تنافسوا على المكانة الاجتماعية بالمُلاسنة والعلاقات الإنسانية . ونجد ما يوازي ذلك في تنافس رجال العرب قديما على قلوب النساء بالشعر والخطابة وسباقات الخيل وما إليها . ولربما أحبط التقدم التكنولوجي الكثير من مشاعر الرقة في الانسان ، وساهم في جعله أكثر ذئبية !  الكآبة « بديلا » للقتل  أظهرت دراسات اجتماعية حديثة أن الرجال الأكثر حظاً في تعزيز مكانتهم في المجتمعات البدائية ، كانوا أوفر حظاً في التزاوج ، وتالياً في نقل تركيبتهم الوراثية ( عبر الجينات ) إلى الأجيال اللاحقة ، ولذا يمكن استنتاج أن الأنماط العقلية المتصلة بهذا الضرب من التوارث الجيني الانتقائي ، كانت أكثر توارثا واستمراراً . ولا يخلو هذا الاستنتاج من قسر وابتسار مصدرهما جعل الجينات عنصراً محدداً وحاسماً في الأنماط العقلية والسلوكية ، وهو قول يصعب أخذه من دون نقد علمي مناسب ، والأرجح أن ثمة تداخلاً مذهلاً ومستمرا بين أنماط الثقافة والعيش من جهة وبين الجينات من الجهة الثانية ولعل هذا التداخل بحاجة إلى دراسات موسعة من قبل سيكولوجيا التطور .   إذا قبلنا مسألة توارث الأنماط العقلية عبر الجينات ، مع اعتراض ملائم ، نصل للقول بأن أدمغتنا وتفكيرنا يستعمل جينات جرى انتقاؤها خلال مراحل تاريخية أكثر بدائية في التركيب الاجتماعي والتكنولوجي . ولأن تلك المجتمعات عاشت صيغا من التآزر والتعاون الاجتماعي كضرورة للبقاء ومواجهة المجاعة والوحوش وتقلب المناخ ، فإن أدمغتنا مزودة ببنية تحتية قوية للصداقة والمحبة والثقة . ولا تنفي هذه الغيرية المتبادلة ، وجود حيز للتنافس المز ومشاعر الغضب والإحباط والعدوان . وفي تاريخ العرب أن الغيداء الفاتنة دعد وعدت أن تعطي نفسها للرجل الأجود شعراً ولما أدرك أحدهم أن قصيدته أقل مستوى من صاحبه ، انقض عليه وقتله لينال المرأة التي يهواها . إذن هل رافقت الكابة الإنسان كضرورة لعدم تشجيع أنماط السلوك المفضية إلى معاناة الإحباط ومرارة الاندحار والهزيمة ؟ بالرجوع إلى الملحمة البابلية نجد أنها تسير نحو ختام مثير . إذ يمر كلكامش بسلسلة تجارب تعطيه معارف عميقة وترسم خطا جديداً في طريقة تفكيره . وبعد مكابدة أهوال شتى ، يحصل على « عشبة الخلود » ، لكن الحية تأكلها ! ويعود كلكامش إلى « أور » ، أقل كأبة ، لكن ليس سعيداً تماماً . إذ تقبل كلكامش أن يكون الموت مصيره المحتم ، على الضد من طموحه بالخلود . وفي المقابل ، يدرك كلكامش ان ما يبقى هو ما يقدر الإنسان على فعله بالتعاون والتضامن مع غيره من البشر . هل الكآبة هي ثمن انضمام الأكثر طموحاً إلى مسار الحشد الاجتماعي ؟ لو افترضنا أن أنسال كلكامش حملت كابته ، لكفت عن تطلب المستحيل ، ولسعت إلى التعاون مع الآخر والمجموع ، لبناء مجتمع أكثر تقدماً . هل هذا ما حصل فعلا ؟ في هذه الحال ، تكون ملحمة كلكامش مجرد تورية وتشبيه عن دور الحزن والشاعر المرهفة في تطور الانسان والمجتمع!
الكآبة المرضية.. أوصافها ملأت ملحمة كلكامش 

الكآبة المرضية : أوصافها ملأت ملحمة « كلكامش »

 الأرجح أنه يصعب على قُرَّاء ملحمة كلكامش ،وهي من أقدم النصوص الملحمية - الدينية ، نسيان ذلك الحزن الهائل الذي تملَّك بطلها العظيم ( كلكامش ) ، بعدما شاهد بأم عينه مصرع صديقه الحميم « أنكيدو » ومفارقة الحياة لجسده ، وتملئى الملحمة بذكر التغييرات التي حلَّت بالبطل الخارق « كلكامش » ، الذي كان يوقظ رعيته على صوت الطبل يومياً ، فصار شريداً ، يرتحل من مكان إلى آخر بحثاً عن تفسير لمعنى الموت ، ولا يفيده رحيله إلا غرقاً في أحزانه.

ملحمة كلكامش

‏نُقشت تلك الأسطورة على ألواح مسمارية عثر عليها في مدينة « أور » في العراق ، وتبين أن كلكامش بطل خارق ، جاء نتيجة زواج أحد آلهة الأساطير الأشورية مع امراة ، تماماً كما يوصف هرقل في أساطير اليونان .
تروي الملحمة أن كلكامش اتخذ من أنكيدو ، ابن الصحراء والمحارب الشهم ، صديقاً له وخلاً ، ويخوض البطلان غمار حروب ومعارك تنتهي بانتصارهما ، لكنها أيضاً تستجلب غضب الآلهة منهما ، ويأتي القصاص عبر موت الخل الوفي أنكيدو . وينخلع قلب كلكامش من هذه الفاجعة . ويمتلئ كرباً . ويعاني حزناً لم يعرف مثله . ويأخذ الكرب بجماع مزاجه وعواطفه ، بل يخلخل افكاره التي تتجه بإلحاح نحو الموت والعدم والعبث واللاجدوى . ويهمل كلكامش العناية بنفسه وهندامه ، ويهجر التضمخ بالعطر والتدهن بالزيت ، وكانا من عاداته اليومية , ويختل نومه . وتضطرب علاقاته مع محيطه ومجتمعه.

 وتستمر معاناة كلكامش أسابيع متصلة ، تفوق ما هو مألوف في الحداد على وفاة صديق حميم . تكاد هذه المعطيات أن تكون ثبتاً طبياً عن الكابة المرضية ( أو السريرية ) Clinical Depression ، بمعني الكابة التي تصل إلى مستوى المرض النفسي ، وليس مجرد الاكتئاب النفسي العابر أو حال الحزن التي ترافق فقدان الأحبة وخسارة المال والفشل وغيرها . وبالعودة إلى الملحمة البابلية ، هل كان كلكامش اول مريض كابة معروف في التاريخ المكتوب للبشرية ؟
وبحسب نصوص الملحمة ، لا يكتفي كلكامش بالسؤال ، بل يحتج على عدم عدالة « تراتبية قدرية من نوع ما . إنه محكوم بالفناء ، أما آباؤه الكبار ذوو السطوة والحول ، فإن لهم الخلود . وتستمر الملحمة في وصف تحول  الاحتجاج ، عبر الكآبة ، قبولاً لهذه التراتبية الأسطورية .هل أصابت ملحمة كلكامش هدفا غير مباشر في قولها بأن الكآبة هي رد  فعل الكائن على تراتبية اجتماعية تضعه في مقام أدنى ، وأنها ربما كانت  شرطاً إنسانياً لاستمرار هذه التراتبية ، بالأحرى أن الكابة تشكل « ثمناً » نفسياً لاستمرار عيش الإنسان في تجمع بشري متراتب ؟ وكأن مأساة  كلكامش أن كأبته هي حكم اجتماعي يقول : « قف عند هذه الحدود ولا تتخطاها ، فأنت أقل شأناً ..

وباستعراض سريع لنصوص مثل ملحمة رامايانا ، الهندية وأساطير اليونان وبعض قصص العهد القديم ، نجد قصصاً فيها أوصاف تشبه ما يصنفه علم النفس وطبها باعتباره كأبة مرضية . لماذا رافقت هذه الاضطرابات النفسية مجتمعات البشر ؟ هل هي جزء من الاجتماع الإنساني ، بل ضريبته المؤلة ؟ هل هي خط انتقائي من جينات معينة  يتناقلها البشر دوماً ، ويظهر فعلها عند حدوث ضغوط على الإنسان ، على غرار إجباره على ترك طموحه ، ومنعه مما يتخيل أنه من حقوقه ؟ لعل أول محاولة علمية لتلمس المناحي التطورية في الكابة هي بحث الاختصاصي البريطاني مودسلي في العام 1872 عن سبب العنف في التعبير عن المشاعر لدى مرضى مصابين بأمراض نفسية شديدة .وتوصل مودسلي ، الذي يحمل اسمه أشهر مستشفى نفسي في بريطانيا ، إلى خلاصة مفادها أن الاضطراب النفسي هو ضريبة حتمية للتطور .ووفرت حقبة الستينيات من القرن العشرين فرصة أمام اختبار الكأبة على محك التطور التقني- الاجتماعي أيضا . إذ أشار معظم الدراسات  النفسية إلى تأثير الانتشار الواسع لجهاز التلفزيون ، في ظاهرة عنف المدن ومراهقيها .  واستناداً إلى تلك البحوث وغيرها ، صاغ الطبيب النفساني أس ، برايس خلاصة باتت شائعة في سيكولوجيا التطور ، عن النظر إلى الكابة باعتبارها رد فعل بيولوجي- اجتماعي يشكل جزءاً مما هو موروث في  الكائن الإنساني .

ابحث عن الشعوب

حاول العلماء دوماً التفكير في كيفية نشوء المشاعر والعواطف والأحاسيس والرغبات والسلوك وردود الأفعال وكل ما يكون عقل  الإنسان ونفسيته . ويطلق تعبير السيكولوجيا التطورية Evolutionary  Psychology على العلم الذي يحاول تقفي أثر التطور والارتقاء ، بما في ذلك الارتقاء الطبيعي ، في تكوين دماغ البشر . وبقول آخر ، تسعى التطورية لوضع تصور عن دور البيئة الاجتماعية ومتغيراتها في التشكل النفسي  للإنسان ، وتبلورت سيكولوجيا التطور منذ النصف الثاني من القرن العشرين ، وارتكزت إلى معطيات عدة ، إذ لوحظ مثلاً ، أن معدلات الكآبة  تتضاعف مرة كل عشر سنوات في البلدان المتقدمة . ويشكل الانتحار ثالث سبب للوفيات في أميركا الشمالية ، بعد حوادث السيارات والقتل ، وهي أشياء لها ترابطات عميقة مع الأحوال النفسية للبشر . ومن الشائع القول إن معدلات الكآبة في الغرب تزايدت طرداً مع الصعود المستمر للفردية INDIVIDUALITY ومشروعها وثقافتها في تلك المجتمعات ، خصوصاً خلال القرون الثلاثة الماضية . وكذلك يميل جمع من الاختصاصيين المعاصرين ، مثل البريطاني جوليان ليف ، إلى الاعتقاد بوجود فوارق في نسب الإصابة بالأمراض النفسية بين الشعوب المختلفة وثمة انطباع متصل عن وجود ارتباط بين التقدم في الحضارة وأساليبها ومجتمعاتها ، وبين الكآبة والقلق وما إليهما . 

وفي هذا السياق ، سجل عالم الاجتماع الفرنسي نابليون شانيون ، وقائع نساء عن لقائه الأول مع اليانومامو ، وهي جماعة بدائية تعيش في غابات فنزويلا . وقال : « صعقت لرؤية عشرات من الرجال العراة الضخام الجثث ، على قذارة وبشاعة ... كانوا يحدقون بنا من أطراف أسنة رماحهم المشرعة . لقد وصلنا مباشرة عقب قتال سببه اختطاف من القرية . وتمكن هؤلاء الرجال من استعادة خمسة منهن بعد قتال ضار بالهراوات . وعلى الرغم من العنف البربري الذي تظهره ملاحظة شانيون هذه ، إلا أن جملة من دارسي الأنثروبولوجيا ، لاحظوا أن عنف المجتمعات البدائية أكثر حذقا وذكاء من القتال بالعصي . ويبدو أن أسلافنا تنافسوا على النساء بالدهاء والعمل الدءوب ، كما تنافسوا على المكانة الاجتماعية بالمُلاسنة والعلاقات الإنسانية . ونجد ما يوازي ذلك في تنافس رجال العرب قديما على قلوب النساء بالشعر والخطابة وسباقات الخيل وما إليها . ولربما أحبط التقدم التكنولوجي الكثير من مشاعر الرقة في الانسان ، وساهم في جعله أكثر ذئبية ! 

الكآبة « بديلا » للقتل 

أظهرت دراسات اجتماعية حديثة أن الرجال الأكثر حظاً في تعزيز مكانتهم في المجتمعات البدائية ، كانوا أوفر حظاً في التزاوج ، وتالياً في نقل تركيبتهم الوراثية ( عبر الجينات ) إلى الأجيال اللاحقة ، ولذا يمكن استنتاج أن الأنماط العقلية المتصلة بهذا الضرب من التوارث الجيني الانتقائي ، كانت أكثر توارثا واستمراراً . ولا يخلو هذا الاستنتاج من قسر وابتسار مصدرهما جعل الجينات عنصراً محدداً وحاسماً في الأنماط العقلية والسلوكية ، وهو قول يصعب أخذه من دون نقد علمي مناسب ، والأرجح أن ثمة تداخلاً مذهلاً ومستمرا بين أنماط الثقافة والعيش من جهة وبين الجينات من الجهة الثانية ولعل هذا التداخل بحاجة إلى دراسات موسعة من قبل سيكولوجيا التطور . 

إذا قبلنا مسألة توارث الأنماط العقلية عبر الجينات ، مع اعتراض ملائم ، نصل للقول بأن أدمغتنا وتفكيرنا يستعمل جينات جرى انتقاؤها خلال مراحل تاريخية أكثر بدائية في التركيب الاجتماعي والتكنولوجي . ولأن تلك المجتمعات عاشت صيغا من التآزر والتعاون الاجتماعي كضرورة للبقاء ومواجهة المجاعة والوحوش وتقلب المناخ ، فإن أدمغتنا مزودة ببنية تحتية قوية للصداقة والمحبة والثقة . ولا تنفي هذه الغيرية المتبادلة ، وجود حيز للتنافس المز ومشاعر الغضب والإحباط والعدوان . وفي تاريخ العرب أن الغيداء الفاتنة دعد وعدت أن تعطي نفسها للرجل الأجود شعراً ولما أدرك أحدهم أن قصيدته أقل مستوى من صاحبه ، انقض عليه وقتله لينال المرأة التي يهواها . إذن هل رافقت الكابة الإنسان كضرورة لعدم تشجيع أنماط السلوك المفضية إلى معاناة الإحباط ومرارة الاندحار والهزيمة ؟ بالرجوع إلى الملحمة البابلية نجد أنها تسير نحو ختام مثير . إذ يمر كلكامش بسلسلة تجارب تعطيه معارف عميقة وترسم خطا جديداً في طريقة تفكيره . وبعد مكابدة أهوال شتى ، يحصل على « عشبة الخلود » ، لكن الحية تأكلها ! ويعود كلكامش إلى « أور » ، أقل كأبة ، لكن ليس سعيداً تماماً . إذ تقبل كلكامش أن يكون الموت مصيره المحتم ، على الضد من طموحه بالخلود . وفي المقابل ، يدرك كلكامش ان ما يبقى هو ما يقدر الإنسان على فعله بالتعاون والتضامن مع غيره من البشر . هل الكآبة هي ثمن انضمام الأكثر طموحاً إلى مسار الحشد الاجتماعي ؟ لو افترضنا أن أنسال كلكامش حملت كابته ، لكفت عن تطلب المستحيل ، ولسعت إلى التعاون مع الآخر والمجموع ، لبناء مجتمع أكثر تقدماً . هل هذا ما حصل فعلا ؟ في هذه الحال ، تكون ملحمة كلكامش مجرد تورية وتشبيه عن دور الحزن والشاعر المرهفة في تطور الانسان والمجتمع!

author-img
Muhamed Amin

تعليقات

ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق
    google-playkhamsatmostaqltradent